لقد فقدت السلطة الفلسطينية فرصة ذهبية لاتخاذ زمام المبادرة واستثمار مصدر قوتها الوحيد قبل بدء المفاوضات الحالية، في سياق الفراغ السياسي الذي امتدَّ لما يقارب ثلاثة أعوام منذ العام 2010. وكانت الأجواء السياسية مواتية في حينه بوجود عدم رضا أو حتى غضب من الحكومة الإسرائيلية من قبل الدول الأوروبية الرئيسية والإدارة الأمريكية أيضاً. لكن، بعد تخلي الجانب الفلسطيني عن شرط إيقاف الاستيطان وقبول حدود عام 1967 كنقطة انطلاق للمفاوضات، سنشهد قريباً تكرار ما حصل في مفاوضات "كامب ديفد" في تموز من العام 2000: من سيُفشِل "الحل" المتوقع أن يقترح من قبل الجانب الأمريكي؟ وسنشهد تكرار السيناريو نفسه إذا ما رفض الجانب الفلسطيني ما سيتم عرضه، وسيُلام على ذلك، بل أسوأ من هذا، إلا إذا قامت الحكومة الإسرائيلية "بإنقاذ" الموقف ورفضت كل ما لا يُبقي الائتلاف الحكومي الحالي غير منفرط العقد.
ما هو جوهر أزمة السلطة الفلسطينية، وما هو مصدر قوتها الوحيد، وما هي خياراتها؟ تكمن أزمة السلطة والقيادة الفلسطينية في أنه بعد ما يزيد على اثنين وعشرين عاماً من المفاوضات، منذ مؤتمر مدريد في نهاية العام 1991 وحتى الآن، لا يوجد لديها أعوام مديدة أخرى من المفاوضات. لقد فقدت "المفاوضات" شرعيتها في أعين الفلسطينيين والجمهور العربي أيضاً. ولما لم يتصور الفلسطينيون أن الهدف من إنشاء السلطة الفلسطينية هو أن تعمل بصورة دائمة كبلدية كبرى لإدارة شؤون السكان المدنيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، إن شرعية استمرار السلطة الفلسطينية، كما هي الآن، على المحك. وتدرك القيادة الفلسطينية هذا جيداً، وقد صرح الرئيس أبو مازن في أكثر من مرة أن لا فائدة من استمرار السلطة إن لم تتحول إلى دولة بالفهم الفلسطيني لها، أي ليس دولة "بحدود مؤقتة" أو "دولة" مقطعة الأوصال ضمن معازل داخل جدار من الإسمنت المسلح. لقد فقدت السلطة الفلسطينية شرعية وجودها، أو شارفت، وبقي لها خيار واحد وهو مصدر قوتها الوحيد.
إن مصدر قوة السلطة الفلسطينية هو وجودها. فإسرائيل تريد بقاءها لأنها أريحت بفعل اتفاقية أوسلو من عبء حكم المدنيين الفلسطينيين وتحمل الأعباء المالية المترتبة على ذلك، لكنها تريدها أن تبقى كما هي دون أن تتحول إلى دولة ذات سيادة فعلية. والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول العربية تريد بقاءها أيضا، غير أنهم غير قادرين على إرغام إسرائيل على إنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية. فبسبب نجاح إسرائيل "الباهر" بتحييد أية ضغوطات خارجية ممكنة عليها خلال العقود الماضية، خاصة في الولايات المتحدة، وبفعل رضوخ معظم الأنظمة العربية لهيمنة الولايات المتحدة في المنطقة وتحييد مصادر قوتها الكامنة، تحول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع العربي الإسرائيلي عامة، إلى الحلبة الإسرائيلية الداخلية حيث ينحصر اهتمام الأحزاب والسياسيين بالأمد الأقصر: كيف يمكن البقاء في الحكم، ومن سيربح الانتخابات القادمة، وكيف يمكن استمالة الناخبين، وهكذا. ومتى دخل الصراع هذا النفق المظلم، نفق السياسة الداخلية الإسرائيلية، لن يخرج منه دون ضغط خارجي فعال، الأمر الذي لم يتوفر حتى الآن والذي يفسر أيضا سبب الازدياد المطرد في قوة اليمين الصهيوني خلال الأعوام الماضية.
في هذا السياق، لا خيار آخر للسلطة الفلسطينية سوى استخدام مصدر قوتها الوحيد ووضع حياتها على المحك، إلا إذا كانت ستقبل بما تقبل به الحكومة الإسرائيلية لها. ولا أقصد بوضع حياتها على المحك بأن تقوم السلطة بحل نفسها كما دعا إلى ذلك البعض في فترات مختلفة خلال الأعوام السابقة، عندما برز التساؤل عن شرعية استمرار السلطة الفلسطينية في الوجود، في غياب تقدم فعلي وملموس نحو إنهاء الاحتلال وإنشاء الدولة المرجوة ذات السيادة. وتوجد مؤشرات واضحة أن القيادة الفلسطينية قد درست هذا الخيار في السنوات الثلاث التي اتسمت بفراغ سياسي فبل بدء المفاوضات الحالية. وكانت أول خطوة اتخذتها في هذا المسعى الذهاب إلى مجلس الأمن ومن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على اعتراف كدولة مراقبة. وكان من المفترض أن تتبعها خطوات أخرى مثل طلب الانضمام إلى عدد من هيئات ولجان ومجالس الأمم المتحدة، والتي يصل عددها إلى 63 هيئة ومجلس حسب آخر تصريح للدكتور صائب عريقات، الأمر الذي كان من شأنه أن يضعها في صدام مع الولايات المتحدة وإسرائيل خاصة، والتي كانت سترد بإجراءات عقابية قد تنتهي بأن تقوم إسرائيل نفسها بحل السلطة، بمعنى إفقادها دورها.
لكن القيادة الفلسطينية لم تنحُ هذا المنحى بعد الخطوة الأولى في الجمعية العمومية، ولا يبدو أنه كان لديها الإرادة السياسية الضرورية لذلك، أو أنها خضعت مرة أخرى للضغوطات الخارجية، واستخدمت هذه الخطوة للعودة إلى مسلسل المفاوضات دون أوراق جديدة في يدها لتعديل ميزان القوة السياسي المختل لصالح إسرائيل.
إن مسعى التأزيم هذا، وإن كان ينبغي أن يتم بخطوات مدروسة، كعمل من أعمال المقاومة الدبلوماسية والقانونية، سيجلب ردَّ فعل إسرائيلياً عقابياً متدرجاً بتدرج الخطوات الفلسطينية. وقد شاهدنا كيف أن إسرائيل قامت بإيقاف تحويل عائدات الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية والمجتباة من قبلها عند الحصول على اعتراف من الجمعية العمومية في تشرين أول/نوفمبر من العام 2012 . وأعيد تحويل هذه المبالغ بتوصية من أجهزة الأمن الإسرائيلية خشية انهيار السلطة بفعل أزمتها المالية في حينه. وقد اشترطت إسرائيل قبل بدء المفاوضات الحالية إيقاف متابعة الانضمام إلى هيئات ومجالس الأمم المتحدة لمدة المفاوضات، ووافقت القيادة الفلسطينية على ذلك.
إن مجمل الخطوات هذه التي أسميها مسلسل التأزيم المتدرج والمدروس، قد تنتهي ولو بعد حين إلى انهيار "التنسيق الأمني" الذي تعتبره إسرائيل أحد أهم إنجازات السلطة الفلسطينية والتي تحرص على بقائه. لكن التنسيق الأمني بما فيه من اعتقالات ومنع الاشتباك مع قوات الاحتلال يلزمه غطاء سياسي يتعذر بقاءه في غمرة الصراع المتصاعد في هذا المسعى من المقاومة الدبلوماسية والقانونية. وقد ينتهي الأمر بأن تقوم إسرائيل بنفسها بالتولي الكامل لهذه المهام، أو احتلال الضفة الغربية احتلالاً مباشراً في حال أدى هذا إلى انتفاضة ثالثة أيّاً كان شكلها. وهذا ما أقصد بأن تضع السلطة الفلسطينية حياتها على المحك. وحتى لو كان من المتوقع حصول تدخل ما من قبل الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية لمنع وصول هذا السيناريو إلى تفاقم في الوضع إلى حد يتداخل مع الانتفاضات العربية الراهنة، فستكون القيادة الفلسطينية في وضع أقوى بما لا يقارن به عما هي عليه الآن تجاه إسرائيل.
غير أن العودة إلى المفاوضات دون عناصر قوة أفقد الجانب الفلسطيني الفرصة هذه التي كانت متاحة قبل ذلك. وتوجد الآن فرصة أضيق خلال المفاوضات نظراً لأن الحكومة الإسرائيلية دأبت حتى الآن بالإعلان عن قرار بناء مستوطنات جديدة كلما أفرجت عن دفعة جديدة من الأسرى الفلسطينيين، والذين بقيت منهم دفعتان في العام 2014. وقد هدد أحد المسؤولين الفلسطينيين مؤخراً بالعودة إلى الأمم المتحدة في حال استمرت إسرائيل فيما دأبت عليه مع كل دفعة أسرى. غير أن هذا الاستدراك المتأخر يلزمه أيضا إرادة سياسية لا يوجد دليل على أنها موجودة. وقد تكون هذه فرصة أخرى ضائعة ما لم يساندها رأي عام داخلي ضاغط ومساند.